أن يكون مصدرُ الخوف هو المسؤولَ عن الأمن، ووسيلة الهدم يستخدمُها المسؤول عن البناء، فهذا شرٌّ لا يُحتَمل، ومصدرُ قلقٍ لا يَتوقَّف، وأن يكون مَبعثُ المشكلات من موقعِ الحل، فيعني الحريق والدَّمار.
ولذلك فإنَّ من أسوأ ما يَمُر بالبيوت أنْ يكونَ سببُ دائها وبلائها وشقائها هو الزوج أو الأب.
هناك من الأزواج مَن يَسعى لحتفه بظِلْفِه، ولعذابه من بابه، فكم من بيتٍ دُمِّر؟، وأسرة شُرِّدَت، وأبناء انحرفوا، ونساء أهينت؛ بسبب الأب أو الزوج وتصرُّفاته وأخلاقه، وطريقة إدارته لبيته وأسرته!
وتختلف الأساليبُ والأسباب والطُّرق التي يَسلُكها الأزواج المخربون في تَخريب بيوتِهم - قصدوا أم لَم يقصدوا، بل شعروا أم لم يشعروا - فالحقيقة أنَّهم
يهدمون بيوتَهم بأيديهم، ومن أبرزِ تلك الأساليب:
1- الشك:
إذا دخل الشَّكُّ بيتًا من الباب، فرَّ الاستقرار الأسري من النوافذ والشقوق، ولا يعرف بعد ذلك معنى للراحة والطمأنينة والجو العائلي، فالزوجُ إذا بدأ يُساوِرُه الشك في زوجته، وأنَّها تخونه أو أن تصرفاتِها مريبة، فهنالك أَلْقِ على السَّعادة السلام، وكَبِّر عليها أربعًا، وكم يعيش الزوج المتعوس الذي ابتُلي بالشك في عناء ومُكابدة وهُموم ووساوس! فهو في حياة صعبة وقاسية، ويَمر بساعات يتمَنَّى فيها الموت، ويتخذه الشيطانُ كُرَةً يتسلى بها، وينزل بها من الهموم ما الله به عليم، ففي كُلِّ لحظة يخرج فيها من بيته يتخيَّل آلافَ التخيُّلات الشيطانية عن حالِ بيته وأهله، وكم من موقف بريء أو كلمة عابرة من زوجته يَجعل منه أصلَ انحراف ومنهج فساد!
ويَزدادُ الأمر سوءًا إذا صادف زوجةً غَيْرَ مُبالية بتصرفاتِها، وغيرَ مراعية لحدودِ زوجها، ولا لحالته ونفسيته، وإن كانت بريئة عفيفة إلاَّ أنَّها تُقوِّي شكوكَ زوجها بتصرفاتها.
المهم: الزوج الشكاك يَهْدِم بيتَه بيده، ويَسعى لدمارِ أسرته بقَدُومِه، وغالبًا ما ينتهي الأمرُ بعد أن تتحوَّلَ الحياةُ إلى جحيم لا يُطاق، ينتهي بتدمير نفسِيَّة الأولاد، وتشويه سُمعة الأُسْرة، وأمَّا الضحية الكبرى وهي الزَّوجة البريئة، فقد حكم عليها بالإعدام العُرفي والمؤبد الاجتماعي، ويتحمل كلَّ هذه الظلمات الزوجُ الذي يستسلم للشك، دون أن يبحثَ لنفسه عن علاجٍ من البداية، ولا يستنصح الصادقين الثِّقَات، أو يَصبر حتى يتيَقَّنَ إن كان - ولا بُدَّ - مُصِرًّا على شكه، نسأل الله العافية.
2- التهديد:
سببٌ غريب من أسبابِ خراب البيوت، يستخدمه بعضُ الأزواج، فذاك يُهدِّد بزوجة ثانية، في كلِّ مُناسبة، وفي كل مَوقف، وعند كل خطأ، وفي كُلِّ زيارة للأقارب أو الأباعد، وأمَّا عند حدوث خلاف، فهي فرصته لرفعِ عقيرته وسَلِّ سيفه، بل رُبَّما بدون أيِّ مناسبة أو حدث؛ ليُهدِّد ويفرض الرعب فقط، وآخر يرفع سيفَ الطلاق باستمرار، ويلوح به عند كل خلاف، بل رُبَّما بلا خلاف، وثالث يُهدِّد بالهجر، ورابع بأن يتركها في بيت أبيها معلقة ولا يُطلِّقها، وذاك يهددُها بزَلَّة حصلت منها في حالة ضعف، وإذا به جعلها سوطًا في يده، قَلَّمَا يتركه، وهذا بالذات من أخلاق اللِّئام.
إنَّ زوجةً تعيش مُهددة طولَ حياتِها، أو غالب مسيرتِها الزوجيَّة - لن تشعرَ بالأمان، وتبقى تنتظرُ متى يفْجَعها زوجُها في أيِّ لَحظة بما يهدد، حتى إنَّه في أيِّ غياب يغيبه الزوج لأيِّ عُذر تنتظر فاجعته أكثرَ من انتظارها لعَودته، وإذا عاشت الزوجةُ خائفةً مُهددة، فلك أن تتخيلَ نفسيتَها، وأَثَرَ ذلك على استقرارِ الأُسْرة وتربية الأبناء، فهي وإن استمرَّت في عَلاقتها الزوجيَّة، إلا أنَّها في أقلِّ الأحوال لن تُعطي الأسرةَ - سواء الزوج والأولاد - الحنانَ والدِّفْء الأسري، ولن تحرصَ على أن تقومَ بدَوْرِها الكامل في بيتٍ تعيشُ فيه مُهددة، فهي جسد بلا رُوح كمَكينة تقوم بمهامِّها وعملها؛ لتستمرَّ الحياة، والسبب حقيقةً يرجع إلى ذلك الزَّوج الجبان الذي يُزعِجُها صباحًا ومساءً بتهديده؛ ليُفقدها حيويتها، وينزع منها زرَّ الأمان، فتعيش خائفةً من أيِّ تصرف، أو موقف، أو حتى من كلمة، تخاف أن تكون سببًا لتنفيذ التهديد المهول.
ولا يعني أنْ نُطالِبَه بتنفيذ تَهديده، لكنَّ التنفيذَ - على الأقل - يفصل الخطاب، ويوقف المسألةَ عند حَدِّها، وسيكون وَقْعُه أخفَّ من تَهديدٍ يستمر العمر بدون تنفيذ، والله أعلم.
3- الإهمال:
إهمالُ الزوج لزوجته، أو الأب لأسرته - عِبارَةٌ عن الحكم بالموت السريري، والإعدام البطيء لروحِ الأسرة، فالزوجُ الذي لا يَدري عن حالِ بيته، فلا يسمع لأبنائه، ولا يتحاور مع زوجته، ولا يُشارك في حَلِّ مُشكلاته، ولا يُشجِّع إنجازاتِه، ولا يقوِّم مُعوَجَّه، ولا يهتمُّ بطلباته، وهَمُّه مُتوجِّه إلى نفسِه فقط، وملذاته وجلساته وأصدقائه، ولا يعرف من البيت إلاَّ أنَّه مكانٌ للنوم، وتغيير الملابس، والطعام أحيانًا، ولا يقبل النِّقاشَ في هذه القضية، بل رُبَّما يكون النِّقاشُ معه فَتْحُ بابِ مُشكلاتِ الصَّبْر على إهماله أخفُّ منها، ويتعلَّل بالانشغال، أو الحرية الشخصية، أو الخصوصية، والعلاقات الخاصة، ونحوها مما يُسوِّغ إهمالَه، فهو وإن صدق في بعضِها، فلا يقبلُ ولا يصحُّ أن تكون حالةً دائمة ومُستمرة، وفي كل الظروف، فالمسؤولية الأولى للأسرة تُحتِّم عليه أنْ يغير من أسلوبِ حياته بما يَحفظ كِيانَ الأسرة، ويُحقق سعادتها.
إنَّ هذا الإهمالَ يجر الأسرةَ إلى انحرافاتٍ خطيرة في بَعضِ الحالات، كما يزرع حاجزًا نفسيًّا بين أفراد الأسرة، وخاصَّة بين الأَبِ والأبناء، وإذا وصل الإهمالُ إلى سِنِّ مُراهقةِ الأبناء، فاحتمالُ الانحراف يتقَوَّى، وتزداد المشكلات تعقيدًا، إلاَّ إذا كانت الأمُّ تقوم بدَوْرِها، ودور الأب، وقَلَّما يكون.
ويَحتج بعضُ المهملين بأنَّهم يقومون بتوفير حاجاتِ الأسرة من طَعامٍ، وشراب، وكساء، وملذات، ورُبَّما يتوسعون في ذلك، وهذا يدُلُّ على جَهْلِهم بحقيقة أو بشمولية الحاجات، التي تأتي في قِمَّتِها الحاجات النفسية، والعاطفية، والأبوية، وهذه لا يعوضها شيءٌ من الأموال.
4- التكلُّف:
أيُّ زوج يقوم بإدارة أسرته وبيته بقانون التكلف، فقد أدخل نفسَه ومن معه مَعركةً خاسرة لا حدَّ لخسائرها، ولا توقفَ لضحاياها، فالتكلُّف مُرْهِقٌ ماديًّا ومعنويًّا؛ ولذلك تعيش كثيرٌ من الأسر في حالةِ حرب مع الحياة؛ لأَنَّها تتعامل بالتكلف في كل قضية، فتتكلف في أحزانِها، كما تتكلف في أفراحِها، ويُعَدُّ الظهورُ بمظهر متكلف أهمَّ قضية في حياتِها، فتجد مَن يتكلف حتى في كلامِه وحديثه عن حياته ونفسه، ومن أقبحِ صُوره أن يتكلفَ الزوجان الظهورَ بمظهر الوُدِّ والمحبة والعلاقة الحسنة، وهما - في الحقيقة - يعيشان طلاقًا صامتًا أو هجرانًا طويلاً، وفي داخلهما من الكُرْهِ والبُغْضِ والتنافُر ما لا تُطيقه الجبال، ويزداد الأمرُ سوءًا أن يتكلفوا ذلك حتى أمام أقربِ الناس إليهم، وهذا الذي يُمكن أن يكون عونًا لهم في حل مشكلتهم.
التكلف في الحياة يَجعل الأعصاب مَشدودة دائمًا، ويرفع وتيرةَ مراقبةِ ومتابعةِ ما يصدر من الآخرين من حكم وتقييم، والتكلُّف المادي يعني أنَّ الديونَ لا تتوقف، فضلاً عن أن تُقضى.
ومن الآثار السيئة للتكلُّف عمومًا على الأبناء أنَّهم يشعرون بكذب أسرتِهم، ويتطور الأمر إلى أن يُمارس الأبناء الكذب على أسرتِهم قبل غيرهم، مثل أن يُظهروا لأسرتِهم بطولاتٍ من خيالِهم مع أصدقائهم، ويفتخروا بأعمالٍ قاموا بها في مدرستهم لا حقيقةَ لها في الواقع.
الزوجُ المتكلف يهدم بيتَه وأسرتَه في سلوكِها وأخلاقها؛ بحيث يَجرها إلى الكذب الاجتماعي ويستحسنه، ويهدمها ماديًّا بتحمل ما لا يُطيق؛ ليظهر بغير حقيقته أو فوق حقيقته، ويتعبها نفسيًّا، فالمتكلِّف يعيش حربًا نفسية غير عادية؛ لأنه يعيش في داخله صراعًا بين الحقيقة التي يعرفها، والتكلُّف الذي يظهره.
وعند حصول خلاف عادي بين الزوجين مثلاً في بيتٍ ينتهج التكلُّف، يسعى كلُّ طرف لفضحِ الآخر، وتذكيره بحقيقته، ويعيره بما يعرفه عنه، ويظنُّ أنه يخفيه؛ لأن الحقائقَ أصلاً لا تظهر في البيت المتكلِّف، فتصبح عارًا ومعيبة.
5- الإعلام:
ليس بيد أي زوج أن يَمنع قناةً فضائية، أو موقعًا على (الإنترنت)، أو مجلة، أو أي وسيلة إعلامية - أنْ تَبُثَّ ما تشاء، وأن تنشرَ ما تريد، لكنَّه بيده أنْ يُدْخِلَ إلى بيته ما يُناسبه وما يرغب فيه، ويَمنع ما لا يريده.
إنَّ السماحَ للقنوات الفضائية ومواقعِ (الإنترنت) بالدُّخول إلى غرف البيوت، دون أيِّ ضَبْطٍ، أو قانون، أو مراقبة، أو انتقاء - معناه زرع قنابل وألغام في البيت تنتظر ساعةَ الصفر لتفجيرها.
كم من بيت فَسَدَ وتغيَّرت علاقة الزوج بزوجته؛ بسبب غرف الشات، أو رسالة (إيميل)، أو محادثات أصدقاء المنتديات ونَحوه! وكم فَعَلَ فيلم أو مسلسل في فضائية بأسرةٍ الأفاعيلَ!
ليست دعوةً لمحاربةِ الإعلام، ورفضه كليةً، لكنها نداء لعدم الغفلة عنه، ولاستخدامه بما ينفع، وألاَّ يفتح له الباب على مِصْراعيه، ولست بحاجةٍ إلى التنبيه إلى وجود قنواتٍ تنشُرُ الرَّذيلة، وتفسد البيوتَ، ولا إلى مواقع (الإنترنت) غير الأخلاقية، فهذا أمر من الشهرة بما يُغني عن ذكره، لكنَّ كلامَنا في تَحرُّز الزوج والأب من مفاسدها.
فحتى لا يهدم الزوجُ بيتَه بيده، ويدفع مقابلَ هذا الهدم أموالاً، عليه أنْ يتعَرَّفَ كيف يَستفيد؟ وكيف يَمنع الضُّرَّ من هذه الوسائل، التي أصبحت جزءًا من حياةِ الناس، ومشاركًا رئيسًا لهم في بيوتهم؟
هذا بعضُ ما يُمكن أن يكون سببًا في هدم البيوت وخرابِ الأُسَر، الذي يقوم بها الزوج، أو هو السبب الرئيس في حصولها، ومما يضاف إلى ذلك إجمالاً: ضعف الشخصية، وترك القوامة، والاختلاط، وتدخل الأقارب في خصوصيات الزوجين، وغياب الزوج الكثير وغير المُسَوَّغ عن البيت، وعدم وجود جلسات حوار أسرية، والمبالغة في الحَزْم، والإفراط في الليونة، والتدليل، والتوسُّع غير المنضبط في العلاقات، والتضييق في التواصُل حتى مع الأقارب، والمقارنة الدائمة بالآخرين، وعلى رأس المصائب التي تقلب الحياة في البيوت، وتَجعلها جحيمًا، وتَهدمها من أساسها: الذنوبُ والمعاصي، ومن أكبرها: انتهاك حدود الله ومواثيقه، ومن أعظم الحدود والمواثيق ما يَخص العلاقة الزوجية.
نسأل الله أن يتوبَ علينا، ويحفظ علينا أمْنَنا، ويهب لنا من أزواجنا وذُرِّيَّاتِنا قُرَّة أعين، ويَجعلنا للمتقين إمامًا.
وصَلَّى الله وسَلَّمَ على محمد وآله.